حقوق معيشية تتآكل.. أزمة القدرة على تحمل التكاليف تخنق الأسر الأمريكية
الإسكان.. الغذاء.. والرعاية الصحية
تجتاح الولايات المتحدة موجة حادة من أزمة القدرة على تحمّل التكاليف، وسط صعود لافت في أسعار الغذاء والسكن والرعاية الصحية والخدمات الأساسية.
وتكشف الشهادات الواردة في العديد من التقارير الإعلامية عن أبعاد حقوقية مباشرة تمسّ الحق في السكن والغذاء والصحة والعيش الكريم، حيث تُظهر الوقائع أن الأزمة لا تُعدّ مجرد تحدٍّ اقتصادي، بل أزمة حقوق إنسان واسعة النطاق تدفع شريحة متزايدة من الأمريكيين نحو الهشاشة والتهميش، بينما تبدو السياسات الحكومية عاجزة عن حمايتهم من انهيار معيشتهم اليومية.
وكشفت "فايننشيال تايمز"، أن أزمة السكن باتت واحدة من أعنف مظاهر انتهاك الحق في العيش الكريم، حيث تُقدّر بيانات الاحتياطي الفيدرالي في أتلانتا أن متوسط سعر المنزل ارتفع بأكثر من الثلث منذ 2021 ليقترب من 400 ألف دولار، بينما يتطلّب اعتباره "ميسورًا" دخلاً يفوق 120 ألف دولار، في بلد لا يتجاوز فيه متوسط الدخل 85 ألفًا.
ويعرض المدير التنفيذي لمقاطعة نورثهامبتون، لامونت ماكلور، صورة قاتمة لهذا الانقسام الاجتماعي، مشيرًا إلى أنّ وادي ليهاي "اقتصاد بحجم ولايات"، ولكن يضم في الوقت نفسه أشخاصًا "لا يستطيعون تحمل تكاليف العيش"، ويؤكد أن المنطقة تمثل "بداية ما ستبدو عليه أمريكا ما بعد الصناعة".
وتوضح شهادات السكان حجم التدهور، تعمل بائعة الزهور أنيسا كاماتشو بوظيفتين، وينشغل شريكها بوظيفتين كذلك، ومع ذلك انتقلت للعيش مع جديها لعجزها عن دفع الإيجار، وتقول: "أشعر وكأن كل شيء يضيق علينا"، هذا ليس مجرد ضيق اقتصادي.
وتؤكد "فايننشيال تايمز" و"الغارديان" أن أسعار الطعام ارتفعت بنسب غير مسبوقة، وتشير البيانات إلى ارتفاع أسعار لحوم البقر بنسبة 14% في عام واحد، وارتفاع فئات أخرى من السلع بين 1.3% و4.5%.
وتعتمد أمٌّ مثل أيداليس مارتينيز على برنامج "سناب" لإطعام طفلتيها، لكنها تواجه تعطّله أثناء الإغلاق الحكومي، وتقول: "سأشعر بالقلق بشأن ما إذا كان بإمكاني الحصول على الوجبة التالية لأطفالي". يكشف هذا التصريح يعكس انتهاكًا مباشرًا للحق في الغذاء، ويكشف هشاشة منظومة الدعم التي يُفترض بها حماية الأُسر.
وفي الغارديان، تصف كات هيل من نيويورك كيف فقدت أسرتها القدرة على شراء وجبات كانت يومًا تُعتبر بسيطة، وتقول: "لا مجال للمناورة"، تعيش هيل، مثل ملايين غيرها، تحت وطأة ارتفاع تكاليف البقالة ورعاية الأطفال، وتتساءل بقلق عن مستقبلها في ظل الإدارة الحالية.
الرعاية الصحية وإرهاق العمل
يكشف التقرير أن تكاليف الرعاية الصحية ترتفع بقوة، مع احتمال ارتفاع أقساط التأمين بأكثر من 1000 دولار سنويًا حال عدم تمديد إعفاءات "أوباما كير"، ويحذّر الموسيقي برايان بوكانان من أن أسرته ستضطر لدفع "أربعة أضعاف" ما تدفعه اليوم، ليحصلوا في النهاية على "تغطية كارثية" فقط.
ويمثل ذلك ضربة مباشرة للحق في الصحة، الذي يتآكل مع كل خطوة حكومية نحو تقليص برامج الحماية الاجتماعية.
يصف السائق ديمتري ناش عمله 72 ساعة أسبوعيًا بأنه "ليس اختياريًا"، بل إلزام فرضته تكاليف المعيشة، ويمثل هذا الواقع انتهاكًا غير مباشر للحق في العمل اللائق، وهو ما أكدت عليه تقارير "فايننشيال تايمز" التي تشير إلى أن نمو أجور العمال الأقل دخلاً تراجع إلى 3.6% فقط.
ويحاول آخرون مثل توماس أبينانتي العثور على عمل بعد تسريحهم، في بيئة يرتفع فيها معدل البطالة إلى 4.4% -أعلى مستوى منذ أربع سنوات- بينما يتقلص الأمل بعودة سوق العمل إلى الازدهار.
تشرد المزيد
يؤكد المدير التنفيذي لمؤسسة نيو بيثاني، مارك ريتل، أن عدد العائلات التي تقصد مخازن الطعام تضاعف بشكل هائل، من خمس عائلات في 2019 إلى أكثر من 30 يوميًا، قائلا: "نرى الكثير ممن طُردوا من منازلهم أو عجزوا عن دفع فواتيرهم الطبية".
وفي موقع "ديلي بيست" الأمريكي، تعبّر خبيرة الائتمان جينيك جونز- التي صوتت لترامب ثلاث مرات - عن خيبة أملها قائلة: "بالتأكيد لم يُصلح الوضع، أشعر أن الأمور ازدادت سوءًا"، وتضيف أن عملاءها يعانون من "فوضى مالية" تتضمن ارتفاعًا في تكاليف رعاية الأطفال والطعام، والاعتماد المتزايد على بطاقات الائتمان.
ويمثل ذلك امتدادًا لقلق شعبي أوسع كشفته استطلاعات رأي قالت إن 26% فقط يعتقدون أن الرئيس يحسن إدارة تكاليف المعيشة.
ويشير التقرير إلى احتجاجات أمام مكتب عضو الكونغرس رايان ماكنزي، رفع خلالها المتظاهرون لافتات تقول: "المليارديرات ازدادوا ثراءً، والأمريكيون ازدادوا مرضًا"، يعكس هذا الاحتجاج إدراكًا مجتمعيًا لاتساع فجوة الثروة، وغياب العدالة في توزيع الأعباء الاقتصادية.
وتكشف "الغارديان" أن انهيار الثقة بلغ حدًا جعل كات هيل وغيرَها يشعرون بقلق عميق من أن المستقبل سيزداد سوءًا، وأن "لا شيء يبدو مستقرًا".
تُظهر المصادر أن الإدارة أعلنت مرارًا عن "انخفاض الأسعار"، رغم ارتفاعها، وتصف عضوة الكونغرس مارجوري تايلور غرين ما يحدث بأنه "تلاعب بالناس"، قبل أن يصفها الرئيس بـ"الخائنة"، ويبدو أن هذا الاضطراب السياسي يزيد من حدة الشعور بانعدام الأمان.
تدهور نفسي واقتصادي
تكشف "الغارديان" أن ثقة المستهلك هبطت إلى 51 نقطة -أدنى مستوى منذ بدء تسجيل المؤشر- في مؤشر واضح على التدهور النفسي والاقتصادي للسكان.
وتعلق الخبيرة الاقتصادية جوان هسو بأن المستهلكين "يشعرون بأن الأسعار تضعف مستوى معيشتهم".
يوضح مدير مأوى المشردين أندرو دوب أن معظم الناس "ينفصلون عن العالم"، مؤكدًا أنهم لم يعودوا قادرين على القلق بشأن واشنطن بينما يواجهون انهيار حياتهم المعيشية خلال 30 يومًا إذا غابوا عن عملهم.
تقول بائعة الزهور كاماتشو، التي صوتت سابقًا لهاريس، إنها فقدت ثقتها في جدوى التصويت، مؤكدة: "لا أحد يفعل شيئًا لمساعدة العامل البسيط"، تظهر هذه الجملة انهيارًا واضحًا في الثقة العامة، وربما في العقد الاجتماعي ذاته.
وتوضح "الغارديان" أن ارتفاع تكاليف البقالة دفع أسراً مثل عائلة هيل للتخلي عن "الكماليات الصغيرة"، في مشهد يعكس انهيار القدرة على توفير أبسط متطلبات الاحتفال العائلي، وبينما تعلن الإدارة "انخفاض تكاليف عيد الشكر بنسبة 25%"، تُظهر تجارب الناس العكس تمامًا.










